بين التنوير والتزوير ردا على هرطقات سعيد جاب الخير

بقلم / يونس شرقي

التنوير و النهضة .. المسار التاريخي و الأدوات المفاهيمية

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت أوروبا تشهد نهضتها ومشروعها الثوري في الصناعة و الزراعة، فتأسست جملة من العلوم القائمة على أنقاض الرياضيات الإقليدية، و قامت الفلسفة الديكارتية بإفتتاح العهد الحديث من الشك في معركته مع اليقين، فاستعرت بين الهدم والتأسيس المفاهيمي لكل مطلق ثابت موروث عن الكنيسة و عهدها المقبور، كهنة الكنيسة الذين حنطوا العقل و جمّدوه في ثلاجة طاقتها نصوص إنجيل محرف، فنصبوا أنفسهم وسطاء لله و وكلاءه على عبدته، فاشتدت محن أوروبا و اشتد ظلامها تحت وطأة الإقطاع الكنسي، هذا العهد المظلم المُسوَّدُ في روما و باريس و بروسيا يقول عنه #مالك_بن_نبي كان عهد علوم و إكتشافات إنسانية هائلة في الأندلس وبغداد ومراكش وفي الكنانة فكان الكندي و الفرابي و ابن سينا و ابن رشد و الرازي و ابن حيان و الخوارزمي، لذا فالعصر الوسيط المظلم في أوروبا كان مُشِعّا في بلاد العرب والمسلمين. النهضة الأوروبية ما كانت لتقوم إلا بمشروع وقف الظلام و إطلاق مرحلة #التنوير التي كانت بمبادرة رجال دين تجردوا من روح الإقطاع فخاض مارتن لوثر وأوغسطين و توما الإكويني و آنسلم تجربة مواجهة الأفكار المتضاربة مع سلامة العقل البشري و قوانينه داخل الكنيسة، المؤكد أن المهمة شاقة و موجعة لمن يقودها لذا تطلب المسار مشوارا حافلا بالتجارب والمحاولات الفاشلة و الناجحة أخيرا بقطيعة تاريخية مع الكنيسة و مع كهنتها أرباب الإقطاع و انقضت آخر كراسة من صكوك الغفران المخارعة لتشع أنوار الدولة المدنية الصناعية القائمة على العلم و الإنسان و حريته دولة القانون و الديمقراطية و الرأي في المقابل؛ كان العرب و المسلمون سياسيا في ظل سلطة الدولة العثمانية في آخر مراحلها و أتعسها، إشتدت حمى الإستبداد و الفساد و الإستعباد ، و تكرست مظاهر التخلف و البذخ و الترف في القصور السلطانية، فكانت الهوّة تتسع بين أسلافنا و بين أوروبا إلى أن تم تقديرها حضاريا بقرنين من الزمن، ما حرك إرادة نخبة من المثقفين الأتراك و العرب لإستدراك هذا التخلف و اللحاق بالركب الأوروبي الذي عرف نهضته و أمسك بمفاتيح الحداثة و التنوير. الأتراك وجدوا في مستخلصاتهم أن الخلافة العثمانية عائق أمام الدولة المدنية العلمانية الحديثة في الشكل الأوروبي فسعوا في سياق موجة تقليعة الدول القومية القائمة بعد الوحدة في ألمانيا و إيطاليا إلى طورنة الدولة العثمانية و تتريكها غصبا عن كل المكونات الحضارية و اللغوية الأخرى الخاضعة لسلطة إسطنبول. العرب المنتشرين في الولايات الخاضعة لوصاية أبناء ابن ارطغل ضاقوا ذرعا بسياسات الإلغاء التركية فطالبوا و أطلقوا مشروعهم المستقل عن العثمانيين، ساروا لأجل حقوق الملة العربية و سعوا لأجل الدولة الجامعة لهم العارفة لمسار النهضة و الحداثة كانت هنا بدايات المشروع النهضوي العربي على أيدي رجال دين أرادوا قيادة العرب نحو محو الهوّة مع أوروبا، تصدر الفكرة رفاعة الطهطاوي قائد وفد الأزهريين الذي أوفدهم محمد علي باشا إلى باريس للسبر أسرار نهضة الأوروبيين و رافق معركته مارتن لوثر العرب جمال الدين الأفغاني و الشيخ محمد عبده و رشيد رضا و خير الدين التونسي و الطاهر بن عاشور هؤلاء كانوا رجال دين قرروا تصدر الفكرة النهضوية و تحمل أعبائها، سبيلهم لحداثة كحداثة أوروبا تقاطع معها في التنوير و تعارض معه في القطيعة مع الدين، فرافعوا أن الدين الذي كرس الظلام في أوروبا و الذي قامت بزواله النهضة الأوروبية هو الدين الكنسي الإقطاعي و ليس الدين بشكله كدين، حاولوا إثر هذا الوصول إلى مخرج من مأزق قد يتورطون فيه وهو كيف لرجل دين أن يدعوا لنهضة تقوم على قطيعة مع الدين ! ، لذا كان المخرج بهذا التفسير أن الإسلام لم يمارس السلطة الكنسية التي مارستها المسيحية ووزعت عبرها صكوك الغفران في أوروبا، الإسلام كما أجمع رجال الإصلاح الديني ينقسم إلى ثلاث محاور و هي: #العقيدة #الحضارة #الشريعة وحسبهم العقيدة هي ما ورد كنص ديني موحى إلى النبي صلى الله عليه و سلم من اعتقدها كان مسلما و من رفضها خرج عن الإسلام و الحضارة هي حركة تاريخية تتحدد بمقياس العلم الجهل و التقدم و التخلف ، بقيت الشريعة التي هي جملة التأويلات و التفسيرات المؤدية إلى الفتاوى المنظمة لحياة المسلمين جماعة و أفرادا فهذه أقروا أنها الحقل الأنسب للإشتغال عليه و تحديثه بما يساعد في الوصول للمقاربة الأوروبية في شكل الدولة و الحريات و الحقوق و السلوكات لقد تمكن رجال الإصلاح الديني من قطع أشواط كبيرة في تحديث الشريعة الإسلامية دون المساس بعقيدة الإسلام و لا غرز معاول الهدم فيها دون مبرر عقلي يستصاغ. هذا الذي تحدثت عنه حبذا لو كان مرآة تاريخية لمن لا يجيدون قراءة التاريخ النهضوي ممن جاؤوا بفكرة الهدم دون تقديم حجرة بناء واحدة؛ جلد الذات لا ينتج إلا الرُجعَى و لا يبرز إلا وصولية في قوالب أتعس.

من نفس القسم - صحة وعلوم -