بوكو كلام ..أمريكا تتحرّش بأوروبا

من يتابع تصريحات قادة أوروبا في الأسابيع الماضية يدرك أن الحرب في أوكرانيا لم تعد مجرد صراع على حدود الشرق، بل أصبحت مرآة تكشف مدى تخلف المنظومة الأمنية الأوروبية كلما تراجعت المظلة الأمريكية عنها، فرغم أن الاتحاد الأوروبي حرص منذ بداية الغزو الروسي على إظهار وحدة الموقف وصلابة العقوبات، فإن نبرة التصريحات الأخيرة لقادة القارة العجوز تكشف أمرًا مختلفًا ألا وهو خوف أوروبي حقيقي من مواجهة روسيا وحيدة بعد انسحاب واشنطن من اللعبة، الأخيرة التي فضحت تفوق الدفاع الجوي الروسي مقارنة مع اوروبا.

بقلم: محمد حميان

واشنطن تنسحب… وأوروبا تتقدّم مجبرة لا مختارة

أوروبا اليوم تعيش كابوسا حقيقيا، بعدما أصبح التحرش الأمريكي بدولها واضحا للعيان، حيث وجدت نفسها وحيدة في مواجهة حقيقية مع التمدد الروسي على أبوابها، بعد انسحاب أمريكا عن دعم الحرب الأوكرانية كما كان في بدايتها، الأمر الذي من شأنه أن يفتح الباب أمام روسيا للاستيلاء على مناطق نفوذ جديدة.

وهنا تكمن المفارقة الحقيقية، فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم يتخلّ عن أوروبا فحسب، بل طالب بأراضي من أوكرانيا كتعويض على ما أنفقته أمريكا لحماية أوروبا من الامتداد الروسي، ثم رتب لقاء مع بوتين ليتفاوض على وقف الحرب، وهو ما غذى اطماع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الاستحواذ على المنطقة بعد انسحاب امريكا من الجبهة، التي كلفتها حسب ماصرح به دونالد ترامب 300 مليار دولار.

ففي كل الأحوال، أوروبا تعرف جيدًا أن الانسحاب الأمريكي حتى ولو كان جزئيًا ليس مجرد مسألة سياسية، بل زلزال يعيد تشكيل خريطة القوة في القارة، وربما يعيد فتح أبواب لم تكن أوروبا مستعدة لرؤيتها تُفتح من جديد، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فإن ما يشغل أوروبا اليوم ليس فقط استمرار الحرب، بل أيضا ضعفها عسكريا مقارنة بالترسانة الدفاعية الروسية، ما يجعلها تعاني من فجوة دفاعية مؤقتة، لأن بعض القدرات الحيوية لن تكون جاهزة بالكامل بعد، وبالتالي ستواجه اوروبا رهانا استراتيجيا كبيرا ليس فقط على زيادة الإنفاق، بل على إعادة هيكلة أمنها، وبناء صناعة دفاعية أكثر تكاملاً، وهو تحول كبير قد لا يمرّ بسهولة دون تحديات داخلية وخارجية.

رؤساء أركان عدة جيوش دول اوروبية، وجدوا اليوم أنفسهم يطالبون بتمويلات جديدة لدعم الدفاع المشترك، وإقناع مواطنيهم بحتمية انتهاج سياسة ترشيد النفقات أو "شد الحزام" من أجل توفير الموارد المالية اللازمة قصد تطوير دفاع أوروبا لمواجهة ما يسمى "الخطر الروسي".

حيث نرى مؤخرا بأن قادة الاتحاد الأوروبي اصبحوا يتحدثون أخيرًا بلهجة أكثر استقلالية: "خطط تسليح أوروبية، منظومات دفاع مشتركة، وصندوق تمويل عسكري طويل الأمد"، مع التأكيد بأن أي سلام يجب أن يحترم وحدة أراضي أوكرانيا، وأن العقوبات على موسكو لن تُرفع قبل انسحاب كامل.

لكن الحقيقة التي لا يريد المسؤولون الأوروبيون الاعتراف بها صراحة هي أن قارتهم ليست جاهزة بعد لتحمل عبء أمنها لوحدها، حيث أن استمرار الحرب سيستنزف مخزون السلاح الأوروبي، ويساهم بشكل كبير في ارتفاع تكاليف الطاقة والغذاء في اوروبا، كما أن صعود اليمين المتطرف في عدة دول أوروبية يغذي نزعات "الانسحاب من الأزمات الخارجية"، لذا فهنا تكمن المفارقة فأوروبا تريد حربًا لا تُهزم فيها أوكرانيا، لكنها لا تريد حربًا تتسع ولا تريد أيضًا مواجهة روسيا وحدها.

فمن الخطأ الاعتقاد أن الخوف الأوروبي من روسيا قائم فقط على ضعف القدرات العسكرية، فالمشكلة أعمق بكثير، حيث أن روسيا بالنسبة لأوروبا ليست مجرد خصم، بل جارة نووية، تمتلك نفوذًا في ملفات الطاقة، والهجرة، وحتى الأمن السيبراني، ومع أن العقوبات الأوروبية كانت الأقسى في تاريخ الاتحاد، إلا أن موسكو أثبتت قدرة على التحمل، وعلى إعادة التموضع اقتصاديًا عبر آسيا، وفي المقابل، لم تثبت أوروبا حتى الآن أنها قادرة على تعويض الأداء العسكري الأمريكي أو دعم كييف بالطريقة نفسها.

لذلك جاء الاستياء الأوروبي من نبرة واشنطن الجديدة، لأن أوروبا تعرف جيدًا أن أي «انسحاب أمريكي» سياسي أو عسكري يعني أمرين هما "عودة روسيا لاعبًا أوسع في الأمن الأوروبي"، و"انكشاف أوروبا على أزمة لا تملك أدوات حقيقية لحسمها."

وفي الأخير يمكن القول بأن الحرب في أوكرانيا لن ترسم مستقبل كييف وحدها، بل سترسم مستقبل أوروبا بالكامل، فالقارة العجوز تقف اليوم أمام خيارين كلاهما صعب: إما أن تعتمد أكثر على نفسها وتتحول فعلاً إلى قوة استراتيجية مستقلة، أو تبقى أسيرة تقلبات السياسات الأمريكية، تدفع ثمن كل تغيير في المزاج السياسي لواشنطن.

من نفس القسم سيـاســة وأراء